الصفحة الأولى الصفحة السابقة الصفحة التالية الصفحة الأخيرة    

المقالة التاسعة عشرة
بعنوان

أهنئ ... وأتمنى


نُشرت في جريدة "الحياة"
الإثنين، 25 صفر 1421هـ الموافق 29 مايو 2000م


         بكل الحب والتقدير، أهنئ لبنان، شعباً وحكومة، أحزاباً وطوائف، تنظيمات رسمية وشعبية، أهنئ بعودة الجنوب، وجلاء المحتل، الذي جثم على الصدور 22 عاماً. أهنئ كل من أسهم في تحقيق هذا الجلاء، بالسلاح والكلمة، بالجهاد في ميدان القتال، والجهاد في ساحات الفكر والنضال. فالجهاد أو المطالبة بالحق، ليست وقفاً على ميدان القتال وحده؛ وإن كان هو الأساس.

         بكل الحب، أقدم التهنئة، حباً بدولة عربية مناضلة، ضمن الوطن العربي الكبير، تتمسك بعروبتها ووحدتها، لم تستسلم لليأس؛ وهو محيط بها في كل مجال. لم تسمح لأحد بإفساد علاقاتها بأشقائها، وعلى الأخص سورية. فازدادت في نفسي محبة. تحملت اجتياحات ثلاثة ومجازر عدة، وصمدت. قدمت الشهداء والجرحى، ولم تستسلم. ترملت النساء وتيتم الأطفال، ولم تستسلم. هُدِّمت الديار، وتشردت الأسَر، ولم تستسلم. فازدادت في نفسي تقديراً، فهكذا تكون الشعوب، التي تظهر حقيقة معدنها الأصيل، في أوقات الشدائد والمِحن.

         ومن منطلق المحبة والتقدير للبنان الشقيق؛ ومنطلق الحرص على هذا الانتصار، وتنزيهاً له عمّا يفسده، ومنطلق الاحتراس، أن تلفتنا الفرحة عن حقيقة ما جرى وما يجري، أسمح لنفسي أن أذكّر.

         فالكل يرفع رايات الانتصار، وعدّ ذلك هزيمة مروعة لعدو شرس، فرّ وانسحب. قد يكون ذلك صحيحاً؛ ولكن، ألا يجب أن نسأل أنفسنا، في خضم هذه الفرحة، لماذا فعل ذلك؟ وهل يُعدّ ذلك انكساراً، من دون ثمن؟ أو هو تراجع تكتيكي، لكسب موقف إستراتيجي؟

         مما لا شك فيه، أن خسائره المستمرة، هي أحد الأسباب، إن لم تكن أقواها. وهو ما يؤكد أن إسرائيل لا تُحْسِن سوى لغة القوة. فلقد أُسست على القوة، وترعرعت على البطش، ولم تعرف في تاريخها رحمة ولا شفقة. ولكن، بأسلوبها، وفي جميع الأوقات، تعرف كيف تجعل العالم يتعاطف معها. فإذا جُرح إسرائيلي واحد، هبّ الجميع، ينددون بغلاظ القلوب المحيطين بإسرائيل. وإذا قُتل العشرات من العرب، كان ذلك دفاعاً مشروعاً للإسرائيليين. أي أنهم أبرياء، في كلتا الحالتَيْن.

         ولنسأل: هل ما نشهده من انسحاب، هو هزيمة كاملة للإسرائيليين؟ للإجابة عن هذا السؤال، علينا أن نستعرض المكاسب، التي حققوها من انسحابهم، حتى الآن، أو قد يحققونها، في المنظور القريب.

أولاً:

كسبوا عطف العالم، وظهروا بمظهر الممتثل لقرارات مجلس الأمن، على الأخص القرار الرقم 425، الذي تذكروه، فجأة، ونسوا أنه صدر في 19 مارس 1978، أي منذ 22 عاماً.

ثانياً:

توقف النزف المستمر لخسائرهم، في المنطقة الأمنية، التي أقاموها. وفي الوقت نفسه، ألقوا بالمسؤولية كاملة على الحكومة اللبنانية، إذا أطلقت رصاصة واحدة، في اتجاه المستوطنات الشمالية. وهدد باراك، صراحة، بذلك. ولو أُطلقت هذه الرصاصة، لأصبح له الحق في الرد العنيف، لأنه يحمي نفسه، وهو غير معتدٍ. وسيكون هناك اجتياح رابع، لا يلومه عليه أحد.

ثالثاً:

يعلم باراك جيداً، أن العقبة أمامه، هي الجولان. ويعلم أن المفاوضات لم ولن تكون سهلة. ويعلم أن إحدى الأوراق التي بين يدي السوريين، هي ورقة لبنان والمقاومة اللبنانية، والالتزام بالمسارَيْن، في وقت واحد. فماذا فعل بانسحابه؟ أمست ورقة الجنوب اللبناني غير رابحة. وفُك المساران بهذه الخطوة التكتيكية، سعياً إلى كسب موقف إستراتيجي، خلال المفاوضات.

رابعاً:

تحللت إسرائيل من أعباء جيش جنوب لبنان، في بضع ساعات، وأصبح أفراده لاجئين، يقدمون درساً أمام كل من تسول له نفسه خيانة بلده، أو الارتماء في أحضان عدوّه. فمن لا خير فيه لأهله ووطنه، لا خير فيه لسواهما.

خامساً:

إحراج سورية الشقيقة.

أتمنى، ونحن في غمرة الفرحة بالانتصار:

*

أن يسلب لبنان أعداءه تعاطف العالم، فلا يعطيهم ذريعة، ولا يحقق لهم هدفاً.

*

أن لا ينسى لبنان، معتَقَلِيه، ولا أراضيه، في شبعا.

*

أن يتفرغ لبنان للبناء والإعمار، ولا يلتفت وراءه، إلا للعظة والاعتبار.

*

أن يشمل النصر كل اللبنانيين، فلا تفرقة بين لبناني وآخر. فهناك لبناني واحد، ووطن واحد.

*

أن يفوّت لبنان على إسرائيل أهدافها، فلا يسمح بوقيعة، أو عدم تأييد، أو تقوقع وتفكير في الذات وحدها. فلبنان عربي، همومه عربية، ومشاكله عربية، تهم كل عربي غيور على وطنه الأكبر.

*

أن يصبر لبنان، حتى يتحقق النصر كاملاً، فمن يفرح أخيراً، يفرح كثيراً.

ألف مبروك، ومن انتصار إلى انتصار، بمشيئة الله، يا لبنان العزيز.




الصفحة الأولى الصفحة السابقة الصفحة التالية الصفحة الأخيرة